برنامج مصالحة

تأسس برنامج مصالحة من إدراك المملكة المغربية لأهمية تأمين شروط إعادة إدماج فئة النزلاء المعتقلين بموجب قانون مكافحة الإرهاب، ومحاربة التطرّف وحماية المجتمع المغربي من آفاته، من خلال مقاربة خلاقة تسعى إلى تأهيل نزلاء هذه الفئة بشكل يجعلهم يتصالحون مع ذواتهم ومع المجتمع ومع النص الديني، والمصالحة مع النظم والمعايير المنظمة للمجتمع في علاقته بالفرد وبالمؤسسات الشرعية الضامنة لتدبير الحياة العامة، وفق ما تمليه القوانين والمعايير الحقوقية والقانونية والأخلاقية، وتغليب المصلحة العليا للأمة والالتفاف حول ثوابتها.

وإدراكا من المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج لأهمية السهر على إعادة إدماج النزلاء المعتقلين بموجب قانون مكافحة الإرهاب بالمؤسسات السجنية، عملت بمعية شركائها على إعداد هذا البرنامج وفق مقاربة تتسم بالتكامل والشمولية، وتتميز عن مختلف نماذج المراجعات والحوارات الفكرية المألوفة. بهدف المساهمة في تقليص ظاهرة التطرف داخل السجون، ثم تدبير مرحلة ما بعد الاعتقال، وتأهيل هؤلاء النزلاء لتمكينهم من اندماج سلس داخل المجتمع.

وجدير بالذكر أنه بعد نجاح 12 نسخة من البرنامج التأهيلي "مصالحة" الذي أبان عن دور كبير وفعال في مكافحة التطرف في صفوف نزلاء المؤسسات السجنية المدانين بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وتنفيذا للتعليمات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله تم إحداث مركز مصالحة والذي تم الإعلان عنه بموجب اتفاقية شراكة موقعة بتاريخ 02 نونبر 2023، حيث يعتبر هذا المركز تتويجا للبرنامج التأهيلي مصالحة الذي دام لمدة 07 سنوات، ورسملة لهذه التجربة الرائدة والفريدة للبرنامج التأهيلي "مصالحة" في صيغته الحالية وضمان استمراريته ومأسسته وتطوير أدائه.

يستفيد من البرنامج النزلاء المدانون بموجب قانون مكافحة الإرهاب بناء على طلباتهم يعبرون من خلالها عن رغبتهم في الاستفادة من البرنامج.

يستمد برنامج مصالحة فلسفته من منطلقين أساسيين:

الأول يتمثل في التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله الداعية إلى تعزيز قيم المواطنة ونشر قيم التسامح والاعتدال، وتنمية الإحساس بالمسئولية المواطنة بين مختلف شرائح وفعاليات المجتمع المغربي، وحرص جلالته نصره الله وأيده على ضرورة إصلاح العدالة الجنائية بالمغرب على أسس المواطنة والمحاسبة والمسئولية والمساواة في الحقوق والواجبات والفرص، وكذا ضرورة العمل والحرص على صون الكرامة الإنسانية للمواطنين السجناء التي لا تجردهم منها الأحكام القضائية السالبة للحرية.

أما الثاني، فيتجلى في استكمال ورش الإنصاف والمصالحة، في صيغة جديدة تتأسس على خلق الشروط الموضوعية والذاتية لتصالح السجناء المعتقلين بموجب قانون مكافحة الإرهاب مع المجتمع، هذا الأخير الذي تحمل أضرارا مادية ومعنوية بسبب أفكارهم المتطرفة.

يتولى تدبير تأطير حصص هذا البرنامج أساتذة متخصصين وفق محاور متنوعة ومتكاملة مرتبطة بالتأهيل الفكري والديني والتأهيل القانوني والحقوقي والتأهيل النفسي والسلوكي والتأهيل السوسيو- اقتصادي وبعض الأنشطة الموازية (عروض تشخيصية، الرسم، الشعر، البستنة، ...).

  • التأهيل الفكري والديني:

يعتمد هذا المحور على منهجية تفكيكية لخطاب التطرف على اعتبار أن هذا الركن مركزي في تأهيل النزلاء المشاركين من أجل إكسابهم مهارات النقد والاستدلال وقيم التسامح والانفتاح المبنية على مبدأ الحق في الاختلاف وعلى قاعدة الاختصاص في فهم النص الديني وتطبيقه وفق منظومة مفاهيمية تستمد شرعيتها من المرجعية الدينية للمملكة المغربية.

والهدف من الأنشطة المدرجة في هذا المحور، هو التركيز أساسا على تصحيح بعض المفاهيم وتحديد الخلل في خطابات الغلو والتطرف، وتمكين النزلاء من المفاتيح لحل شفرات الخطاب المتشدد الذي يسبب انحباسا فكريا وتطرفا على المستوى الديني والسلوكي، بأسلوب يعتمد لغة البيان وضرب الأمثال لإيصال وفهم المغزى من الخطاب. مع التطرق إلى أن الدين فيه ما هو متعلق بالاعتقاد والأخلاق، وفيه ما هو متعلق بالتشريع الذي له مقاصد عامة، تتوخى بالأساس تحقيق السعادة للفرد والجماعة، وحفظ النظام وتعمير الدنيا.

كما يركز هذا المحور على التحذير من أصحاب "الزحلقات الاستدلالية" الذين يظنون أن نصرة الحق لا تحتاج إلى مكابدة وتوفير الإمكانات والكفاءات، بل يكفي النظر في بعض النصوص القرآنية كأنها نزلت فيهم ليتأتى لهم الأمر، لإخراج الناس من حالة السوء إلى الأفضل، وهذا غير صحيح، إذ يحتاج الأمر إلى فقه الأولويات وتنسيق وهندسة.

  • التأهيل القانوني والحقوقي:

يسعى هذا المحور إلى تمكين النزلاء من فهم واستيعاب وقبول الإطار القانوني المنظم لعلاقة الأفراد بالمجتمع وبالدولة والتقيد بمقتضيات النص القانوني، انطلاقا من جدلية الحقوق والواجبات، والتفاعل الإيجابي مع الآخر في إطار الانتماء إلى الوطن الواحد والتفاعل داخله دون المساس بحق الاختلاف.

كما يحاول المتدخلون في هذا المحور من التكوين أن يغيروا تمثل النزلاء للآلية القانونية بشكل يجعلهم ينظرون إليها ليس فقط كآلية زجرية وردعية، وإنما أيضا كآلية حمائية. وتم تدبير وتأطير هذا المحور من خلال النقاط الجزئية التالية: الحركة الحقوقية بالمغرب، آليات العمل الحقوقي عالميا وجهويا ومحليا، دستور 2011 وآليات التدبير الحقوقي والحكامة الجيدة بالمغرب، القوانين الدولية والمحلية المتعلقة بالجرائم الإرهابية.

  • التأهيل النفسي والسلوكي:

الهدف من هذا المحور هو إكساب النزلاء كفاءات معرفية وسلوكية تمكنهم من تحصين ذواتهم بما يمكنهم من تفادي الانسياق مع الخطابات المتطرفة والاندماج الايجابي بعد الإفراج. من أجل جعل النزيل قادرا على إعادة هيكلة تمثلاته ومخاوفه وتوقعاته بشكل إيجابي، اعتمادا على حصص تكوينية ومقابلات فردية واختبارات نفسية تتمثل فيما يلي:

  • حصص جماعية يتم خلالها مناقشة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات ويتم تنشيط كل جلسة بطريقة تسهل حسن الاستماع والتجاوب والمشاركة، كل حسب فهمه ومستواه العلمي والمعرفي. والغرض من ذلك هو إكساب النزلاء المستفيدين وسائل وأساليب وميكانزمات لتقوية مناعتهم الذاتية؛
  • لقاءات فردية مع كل نزيلone to one"" تعتمد على تقنيات الاستماع المتخصص من أجل مساعدة النزيل على استجماع ذاكرته وامتلاك القدرة النفسية على تذكرها والوعي بمواقع الضعف النفسي، وهي خطوات للتعافي ولترميم الأعطاب الموجودة بالآليات الدفاعية منذ المراحل المبكرة للفرد.
  • التأهيل السوسيو- اقتصادي:

الهدف من هذا المحور المهم ليس فقط إكساب النزلاء المهارات والكفاءات الضرورية لاستغلال أنسب لما يتوفرون عليه من قدرات ومؤهلات لبناء مشروع ذاتي يمكنهم من تحقيق استقلاليتهم السوسيو- اقتصادية، وإنما يرمي أيضا إلى تسخير القدرات الذاتية لخدمة المحيط الاجتماعي بما يحقق المصالحة مع المجتمع وتبني نمط إيجابي وبناء في التعامل مع هذا المحيط، وإجراء مصالحة عملية معه وليس فقط لفظية.

ويتم التركيز خلال هذا المحور على كيفية إنشاء مقاولة ذاتية، وكيفية إقامة مشروع مجتمعي، ولكي يعرف هذا المشروع النجاح المطلوب ويعيد الكرامة للمواطن، لا بد من اقتضاء جملة من الأمور الأساسية من بينها:

  • الصدق والامانة؛
  • اللباقة في التعامل؛
  • إعطاء الأهمية للوقت؛
  • دراسة السوق؛
  • الدراسة المالية للمشروع ومصادر التمويل؛
  • التدبير والتسيير.
  • مناظرات بناء وتفكيك الخطاب المتطرف:

هي فقرة يتم خلالها تأطير وتأهيل النزلاء على تمرين المحاكاة "simulation" وذلك في إطار الإعداد لتفكيك الخطاب المتطرف انطلاقا من ثنائية الهدم والبناء عملا بأدوات ومهارات العلوم الإنسانية، والاجتماعية. حيث تتولى كل مجموعة من النزلاء على حدة بناء خطاب تحريضي متطرف، متبوع بخطابات مضادة ذات طابع نقدي تفكيكي، ورفع اللبس وكشف الشبه، وإزالة التأويل الباطل والتحريف المغالي الخارج عن السياق، ثم إظهار الحجة وإبصارها لمن زاغ عن المحجة بقوة الدليل والاستدلال الصحيح.

  • الأنشطة الموازية:

تنظيم عدة أنشطة موازية من قبيل ممارسة بعض الرياضات وزرع بدور الحس البيئي والانتماء إلى فضاء مشترك يتطلب الحفاظ عليه والعناية به وذلك من خلال أنشطة زرع الأغراس وسقيها والحفاظ عليها داخل حديقة المركز البيداغوجي. وفقرات أخرى عبارة عن إبداعات النزلاء الشعرية والنثرية والموسيقية والعروض التشخيصية والرسم ...

  • المواكبة بعد الإفراج

وفي إطار المواكبة بعد الإفراج عن السجناء يتم إحالة المشاريع المدرة للدخل المقترحة من طرفهم خلال مشاركتهم في البرنامج على مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، وذلك عند انتهاء كل دورة، كما يتم إحالة أسماء السجناء المفرج عنهم وعناوينهم على المؤسسة.

باستحضار الدور الذي تقوم به مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء داخل الفضاء السجني لفائدة نزيلات ونزلاء المؤسسات السجنية بشكل عام والمدانين بموجب قانون مكافحة الإرهاب والمنخرطين في برنامج مصالحة بشكل خاص سواء مباشرة أو من خلال الطلبات التي تتلقاها منهم، فإن مهامها وطبيعة دورها بعد الإفراج ومغادرة الفضاءات السجنية يتنوع بتنوع خدمات ونوع حاجيات المستفيد الذي ينتقل من حالة فردية خاصة داخل السجن إلى حالة جماعية باعتبار الإشكالات والاحتياجات التي تطفو على السطح سواء الخاصة به أو بأفراد أسرته وما تقتضيه من تدخل لحل المشاكل وتذليل العوائق سعيا لمساعدته على الاندماج الفعال في النسيج المجتمعي.

زر الذهاب إلى الأعلى